كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وإنّ ربك} أي: المحسن إليك بأحسن الأخلاق {لهو العزيز} أي: فلا يخرج شيء عن قبضته وإرادته {الرحيم} أي: في كونه لم يهلك أحدًا حتى يرسل إليهم رسولًا يبين لهم ما يرتضيه الله تعالى وما يسخطه.
ثم أتبع قصة صالح عليه السلام قصة لوط عليه السلام وهي القصة السادسة فقال: أي: كتكذيب من تقدم كأنهم تواصوا به {قوم لوط المرسلين} لأنّ من كذب رسولًا كما مضى فقد كذب الكل ثم بين إسراعهم في الضلال بقوله تعالى: {إذ} أي: حين {قال لهم أخوهم} أي: في البلد لا في الدين ولا في النسب لأنه ابن أخي إبراهيم عليهما السلام وهما من بلاد الشرق من أرض بابل، وكأنه عبر بالأخوة لاختياره لمجاورتهم ومناسبتهم بمصاهرتهم وإقامته بينهم في مدينتهم مدة مديدة وسنين عديدة وإتيانه بالأولاد من نساءهم مع موافقته لهم في أنه قروي ثم بينه بقوله تعالى: {لوط} بصيغة العرض كغيره ممن تقدم {ألا تتقون} الله فتجعلون بينكم وبين سخطه وقاية، ثم علل ذلك بقوله: {إني لكم} أي: خاصة {رسول} فلا تسعني المخالفة {أمين} لا غش عندي ولا خيانة، ثم تسبب عن ذلك قوله: {فاتقوا الله} أي: الملك العظيم فإنه قادر على ما يريد فلا تعصوه {وأطيعون} أي: لأنّ طاعتي سبب نجاتكم لأني لا آمركم إلا بما يرضيه ولا أنهاكم إلا عما يغضبه ثم نفى عن نفسه ما يتوهم كما تقدم لغيره بقوله: {وما أسألكم عليه} أي: الدعاء إلى الله تعالى {من أجر} أي: فتتهموني بسببه {إن أجري إلى على رب العالمين} أي: المحسن إليّ بإيجادكم ثم بتربيتكم، ثم وبخهم ووعظهم بقوله: {أتأتون الذكران} وقوله: {من العالمين} يحتمل عوده إلى الآتي، أي: أنتم من جملة العالمين مخصوصون بهذه الصفة وهي إتيان الذكور ولم يفعل هذا الفعل غيركم من الناكحين من الخلق، ويحتمل عوده إلى المأتي: أي: أنتم اخترتم الذكران من العالمين كالإناث منهم وعلى هذا يحتمل أن يراد الذكران من الآدميين ومن غيرهم توغلًا في الشرّ وتجاهرًا بالتهتك، قال البقاعي: وإن يراد الآدميون وجرى عليه البغوي وأكثر المفسرين أي: تريدون الذكران من أولاد آدم مع كثرة الإناث وغلبتهنّ.
{وتذرون} أي: تتركون لهذا الغرض {ما خلق لكم} أي: للنكاح {ربكم} أي: المحسن إليكم وقوله: {من أزواجكم} يصلح أن يكون تبيينًا أي: وهن الإناث وأن يكون للتبعيض ويكون المخلوق لذلك هو القبل، وكانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم، ثم كأنهم قالوا نحن لم نترك نساءنا أصلًا ورأسًا وإن كانوا قد فهموا أنّ مراده تركهن حال الفعل في الذكور، فقال مضربًا عن مقالهم لما أرادوا به حيدة عن الحق وتماديًا في الفجور {بل أنتم قوم عادون} أي: متجاوزون عن حدّ الشهوة حيث زادوا على سائر الناس بل والحيوانات أي: مفرطون في المعاصي، وهذا من جملة ذلك، أو أحقاء بأن توصفوا بالعدوان بارتكابكم هذه الجريمة، ولما اتضح الحق عندهم وعرفوا أن لا وجه لهم في ذلك وانقطعت حجتهم.
{قالوا} مقسمين {لئن لم تنته} وسموه باسمه جفاء وغلظة بقولهم: {يا لوط} أي: عن مثل إنكارك هذا علينا {لتكونن من المخرجين} أي: ممن أخرجناه من بلدنا على وجه فظيع من تعنيف واحتباس أملاك كما هو حال الظلمة إذا أجلوا بعض من يغضبون عليه وكما كان يفعل بعض أهل مكة بمن يريد المهاجرة، وفي هذا إشارة إلى أنه غريب عندهم وأنّ عادتهم المستمّرة نفي من اعترض عليهم.
{قال} مجيبًا لهم {إني} مؤكدًا المضمون ما يأتي به {لعملكم من القالين} أي: المبغضين غاية البغض لا أقف عن الإنكار عليه بالإبعاد.
تنبيه:
قوله من القالين: أبلغ من أن يقول إني لعملكم قالٍ كما تقول فلان من العلماء فيكون أبلغ من قولك فلان عالم لأنك تشهد له بكونه معدودًا في زمرتهم ومعروفة مساهمته لهم في العلم، والقلي: البغض الشديد كأنّ البغض يقلي الفؤاد والكبد والقالي المبغض كما قال القائل:
ووالله ما فارقتكم قاليًا لكم ** ولكن ما يقضى عليّ يكون

ثم إنه عليه السلام دعا إلى الله تعالى بقوله: {رب نجني وأهلي} وقوله: {مما يعملون} يحتمل أن يريد من عقوبة عملهم، قال الزمخشري: وهو الظاهر، ويحتمل أن يريد بالتنجية العصمة، ثم إنّ الله تعالى قبل دعاءه كما قال تعالى: {فنجيناه وأهله} مما عذبناهم به بإخراجنا له من بلدهم حين استخفافهم له ولم نؤخره عنهم إلى حين خروجهم إلا لأجله، وأكد بقوله تعالى: {أجمعين} إشارة إلى أنه نجى أهل بيته ومن تبعه على دينه، ثم استثنى تعالى من أهل بيته قوله تعالى: {إلا عجوزًا} وهي امرأته كائنة {في} حكم {الغابرين} أي: الماكثين الذين تلحقهم الغبرة بما يكون من الداهية فإننا لم ننجها لقضائنا بذلك في الأزل لكونها لم تتابعه في الدين ولم تخرج معه وكانت مائلة إلى القوم راضية بفعلهم، وقيل: أنها خرجت فأصابها حجر في الطريق فأهلكها.
فإن قيل: كان أهله مؤمنين ولولا ذلك لما طلب لهم النجاة فكيف استثنيت الكافرة منهم؟
أجيب: بأنّ الاستثناء إنما وقع من أهل بيته كما مرّت الإشارة إليه وفي هذا الاسم لها معهم مشركة بحق الزواج وإن لم تشاركهم في الإيمان، فإن قيل: في الغابرين صفة لها كأنه قيل إلا عجوزًا في الغابرين غابرة ولم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم؟
أجيب: بأنّ معناه إلا عجوزًا مقدّرًا غبورها، أو في حكمهم كما مرت الإشارة إليه.
{ثم دمرنا} أي: أهلكنا {الآخرين} أي: المؤخرين عن اتباع لوط وفي التعبير بلفظ الآخرين إشارة إلى تأخرهم من كل وجه، ثم لما كان المراد بقوله تعالى: {دمرنا} حكمنا بتدميرهم عطف عليه قوله: {وأمطرنا عليهم مطرًا} قال وهب بن منبه: الكبريت والنار، وقال قتادة: أمطر الله تعالى على شذاذ القوم حجارة من السماء فأهلكتهم {فساء مطر المنذرين} اللام فيه للجنس حتى يصح وقوع المضاف إلى المنذرين فاعل ساء وذلك لأنّ فاعل فعل الذمّ أو المدح يجب أن يكون معرفًا بلام الجنس، أو مضافًا إلى المعرف بلام الجنس ليحصل الإبهام المقصود ثم التفصيل ولا يأتي ذلك في لام العهد، والمخصوص بالذم محذوف وهو مطرهم.
{إن في ذلك} أي: إنجاء لوط ومن معه وإهلاك هؤلاء الكفار الفجار {لآية} أي: دلالة عظيمة على ما يصدق الرسل في جميع ترغيبهم وترهيبهم، ولما كان من أتى بعد هذه الأمم كقريش ومن بعدهم قد علموا أخبارهم وضموا إلى تلك الأخبار نظر الديار والتوسم في الآثار، قال تعجبًا من حالهم في ضلالهم {وما} أي: والحال أنه ما {كان أكثرهم مؤمنين} بما وقع لهؤلاء.
{وإن ربك} وحده {لهو العزيز} أي: في بطشه لأعدائه {الرحيم} في لطفه بأوليائه.
ثم أتبع قصة لوط عليه السلام بقصة شعيب عليه السلام وهي القصة السابعة قال تعالى: {كذب أصحاب الأيكة} أي: الغيضة ذات الأرض الجيدة التي تبتلع الماء فتنبت الشجر الكثير الملتف {المرسلين} لتكذيبهم شعيبًا عليه السلام فيما أتى به من المعجزة المساوية في خرق العادة وعجز المتحدين بها عن مقاومتها لبقية المعجزات الآتي بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر لَيكة بلام مفتوحة من غير ألف وصل وياء ساكنة ولا همزة قبلها وفتح تاء التأنيث، والباقون بإسكان اللام وقبلها وصل وبعد اللام همزة مفتوحة بعدها ياء ساكنة وخفض تاء التأنيث، قال أبو عبيدة: وجدنا في بعض التفاسير الفرق بين ليكة والأيكة فقيل: ليكة هو اسم للقرية التي كانوا فيها، والأيكة: البلاد كلها فصار الفرق بينهما شبيهًا لما بين مكة وبكة، ثم بين تعالى وقت تكذيبهم بقوله تعالى: {إذ} أي: حين {قال لهم شعيب} برفق ولطف {ألا تتقون} الله الذي تفضل عليكم بنعمه ولم يقل أخوهم شعيب لأنه لم يكن من أهل الأيكة في النسب لأنهم كانوا أهل بدو وكان عليه السلام قرويًا، لأنّ الله تعالى لم يرسل نبيًا إلا من أهل القرى تشريفًا لهم، لأنّ البركة والحكمة في الاجتماع، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التعرب بعد الهجرة وقال: «من يرد الله به خيرًا ينقله من البادية إلى الحاضرة» ولما ذكر مدين قال: {أخاهم شعيبًا} لأنه كان منهم وكان الله تعالى بعثه إلى قومه أهل مدين وأصحاب الأيكة، ثم أكد ما قاله بقوله: {إني} وأشار إلى تبشيرهم إن أطاعوه بقوله: {لكم رسول} أي: من عند الله فهو أمرني أن أقول لكم ذلك {أمين} أي: لا خيانة عندي ولا غش فلذلك أبلغ جميع ما أرسلت به ولذلك تسبب عنه قوله: {فاتقوا الله} أي: المحسن إليكم بهذه الغيضة وغيرها {وأطيعون} لما ثبت من نصحي لكم، ثم ذكر ما ذكر من تقدّمه من الأنبياء من نفي ما يتوهم أنّ لهم رغبة في أجرة على دعائهم فقال: {وما أسألكم عليه} أي: دعائي لكم إلى الإيمان بالله تعالى {من أجر} ثم زاد في البراءة من الطمع في أحد من الخلق بقوله: {إن} أي: ما {أجري إلا على رب العالمين} أي: المحسن إلى الخلائق كلهم فأنا لا أرجو أحدًا سواه، ثم نصحهم بقوله: {أوفوا الكيل} أي: أتموه إتمامًا لا شبهة فيه إذا كلتم كما توفونه إذا اكتلتم {ولا تكونوا من المخسرين} أي: الناقصين لحقوق الناس في الكيل والوزن كما قال تعالى: {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون} (المطففين:1- 2) أي: الكيل {وإذا كالوهم}.
أي: كالوا لهم {أو وزنوهم} أي: وزنوا لهم {يخسرون}: ينقصون الكيل أو الوزن.
{وزنوا} أي: لأنفسكم ولغيركم {بالقسطاس} أي: الميزان الأقوم وأكد معناه بقوله: {المستقيم} وقيل: هو بالرومية العدل، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بكسر القاف، والباقون بالضمّ.
تنبيه:
الكيل على ثلاثة أضرب: واف، وطفيف، وزائد، فأمر بالواجب الذي هو الإيفاء بقوله تعالى: {أوفوا الكيل} ونهى عن المحرم الذي هو التطفيف بقوله تعالى: {ولا تكونوا من المخسرين}.
ولم يذكر الزائد لأنه إن فعله فقد أحسن وإن لم يفعله فلا إثم عليه، والوزن في ذلك كالكيل، ولهذا عمم في النهي عن النقص بقوله: {ولا تبخسوا} أي: تنقصوا {الناس أشياءهم} أي: في كيل أو وزن أو غير ذلك، ثم أتبع ذلك بما هو أعم بقوله: {ولا تعثوا} أي: لا تنصرفوا {في الأرض} من غير تأمل حال كونكم {مفسدين} أي: في المال أو غير ذلك كقطع الطريق والقتل، ثم خوفهم بعد أن وعظهم ونهاهم عن الفساد من سطوة الجبار ما حل بمن هو أعظم منهم بقوله: {واتقوا الذي خلقكم} أي: من نطفة فإعدامكم أهون شيء عليه وأشار إلى ضعفهم وقوة من كان قبلهم بقوله: {والجبلة} أي: الجماعة والأمم {الأولين} الذين كانوا على خلقة وطبيعة عظيمة كأنها الجبال قوة وصلابة لاسيما قوم هود الذين بلغت بهم الشدة حتى قالوا من أشدّ منا قوّة، وقد أخذهم الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، ثم إنهم أجابوه بالقدح في الرسالة أولًا: باستصغار الوعيد ثانيًا: بأن {قالوا إنما أنت من المسحرين} أي: الذين كرّر سحرهم مرّة بعد أخرى حتى اختلفوا فصار كلامهم على غير نظام، أو من المعللين بالطعام والشراب كما مضى في صالح عليه السلام أي: فأنت بعيد عن الصلاحية للرسالة، ثم أشاروا إلى عدم صلاحية البشر لها مطلقًا ولو كان أعقل الناس بقولهم: {وما أنت إلا بشر مثلنا} أي: فلا وجه لتخصيصك عنا بذلك وأتوا بالواو للدلالة على أنه جامع بين وصفين مناقضين منافيين للرسالة مبالغة في تكذيبه، ولهذا قالوا {وإن نظنك لمن الكاذبين} أي: في دعواك.
تنبيه:
مذهب البصريين أنّ {إن} هذه هي المخففة من الثقيلة، أي: وإنا نظنك، والذي يقتضيه السياق ترجيح مذهب الكوفيين هنا في أنّ {إن} نافية، فإنهم أرادوا بإثبات الواو في وما أنت المبالغة في نفي إرساله بتعداد ما ينافيه، فيكون مرادهم أنه ليس لنا ظنّ يتوجه إلى غير الكذب، وهو أبلغ من إثبات الظنّ به، ثم إنّ شعيبًا عليه السلام كان توعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا فقالوا: {فأسقط علينا كسفا} أي: قطعًا {من السماء} أي: السحاب أو الحقيقة {إن كنت من الصادقين} أي: العريقين في الصدق المشهورين فيما بين أهله لنصدّقك فيما لزم من أمرك لنا باتخاذ الوقاية من العذاب.
تنبيه:
انظر إلى حسن نظر شعيب عليه السلام كيف هدّدهم بما لله عليهم من القدرة في خلقهم وخلق من كانوا أشدّ منهم قوة وإهلاكهم بأنواع العذاب لما عصوه بتكذيب رسلهم، وقرأ حفص بفتح السين، والباقون بالسكون وهنا همزتان مكسور، فقالون والبزي يسهل الهمزة الأولى من المدّ والقصر، وأسقطها أبو عمرو مع المدّ، والباقون بتحقيق الأولى.
{قال} لهم شعيب في جوابهم {ربي أعلم بما تعلمون} فيجازيكم به فإن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخره إلى أجل معلوم، وأمّا أنا فليس عليّ إلا البلاغ، وأنا مأمور به فلم أخوّفكم من نفسي ولا ادعيت قدرة على عذابكم فطلبكم ذلك مني مضموم إلى ظلمكم بالتكذيب.